عُمان والخليج- رؤية بحرية لمستقبل التجارة والسياسة

المؤلف: محمد الساعد08.12.2025
عُمان والخليج- رؤية بحرية لمستقبل التجارة والسياسة

في سالف العصر والأوان، تفوه وزير خارجية سلطنة عُمان، معالي السيد يوسف بن علوي بن عبدالله، بمقولة بليغة، مفادها أن عُمان تتأمل العالم بمنظار المحيط الهندي. هذه الرؤية، لا ريب فيها، تجسد إدراك العُمانيين لذاتهم، وتصورهم لكيفية رغبتهم في أن يراهم العالم. إنها نظرة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، حينما كانت مسقط الأثيرة عاصمة للإمبراطورية العُمانية المترامية الأطراف، والتي امتدت من بحيرات أفريقيا الوسطى غربًا، وصولًا إلى مشارف شبه القارة الهندية شرقًا. لقد كانت تلك الإمبراطورية تهيمن بحق على بحيرة مائية فسيحة، تتربع بين الجزيرة العربية وأفريقيا والهند، وبحوزتها أسطول مهيب، كان الأضخم والأكثر قدرة في مياه المحيط الهندي.

كان الوزير «علوي» ينطق بتلك الكلمات، مسوغًا بذلك استدارات عُمان المتتالية في دهاليز السياسة وخبايا الاستراتيجيا، ومبديًا رغبته العميقة في فهم التركيبة العُمانية الفريدة، الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، والتي شيدها البحر المتلاطم الأمواج والمحيط الهادر والسفن العابرة للبحار، وهي تنقل على متنها جموع البشر والتجارة الرائجة، من ساحل أفريقيا الشرقي الزاخر بالحياة إلى أرجاء العالم الفسيح، وبالعكس.

واليوم، يشهد العالم بأكمله تحولًا ملحوظًا باتجاه الشرق، كما تقتضي حكمة الاقتصاد الجديد الصاعدة، وبناءً على ذلك، فإن الخليج العربي سيغدو بلا أدنى شك جسرًا للتجارة العالمية، وطريقًا للحرير الجديد الميمون، القادم من طوكيو اليابانية، مرورًا بالصين العملاقة وفيتنام النابضة بالحياة وماليزيا الساحرة والهند العريقة، ثم الجزيرة العربية الشامخة ومصر الأفريقية الخالدة، وأخيرًا باتجاه قارة أوروبا والقارتين الأمريكيتين في أقصى غرب المعمورة.

إن الجهود الحثيثة التي تبذلها المملكة العربية السعودية الشقيقة، والتي دعت سلطنة عُمان العزيزة إلى النظر للعالم بعيون خليجية موحدة، يجب أن تُبنى عليها دعائم مستقبل الخليج العربي المشرق، خلال السنوات العشر القادمة التي تحمل في طياتها الكثير، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال التوجه إلى الشرق الأقصى، دون المرور بسلطنة مسقط الغالية، وهذا تحديدًا ما سيجعل من «السلطنة» البوابة الذهبية للمحيط الشاسع وما وراءه من اقتصاد مزدهر وتجارة رائجة، وبالتأكيد مصالح سياسية جمة لا يمكن القفز عليها خليجيًا.

المملكة العربية السعودية اليوم، وهي تبني مستقبلها الاقتصادي الزاهر، وتضع رؤيتها الطموحة وبرامجها المتنوعة للتحول والتوازن، تقوم بتشييد قواعد اقتصادية في غاية الأهمية في فضائها المترامي الأطراف، وستكون تلك القواعد المتينة هي الركائز الأساسية التي يقوم عليها المستقبل المأمول، بدءًا من إثيوبيا وجيبوتي، ثم نزولًا إلى جزر المالديف الساحرة وجزر القمر الفاتنة، وانتهاءً بدول النمور الآسيوية الصاعدة.

وكما أن سلطنة عُمان تحتل موقعًا استراتيجيًا في الطرف الجنوبي الشرقي للجزيرة العربية، تأتي الجمهورية اللبنانية في الطرف الشمالي الغربي، وكأنهما يشكلان خطًا واحدًا يبدأ من جبال مسقط الخضراء الشامخة، وينتهي عند صخرة الروشة المهيبة المطلة على البحر الأبيض المتوسط المتلألئ. بيروت هي الأخرى تتطلع إلى العالم بعيون أوروبية واعدة، وهذه هي ميزتها الفريدة ورأس مالها الثمين، والتي إن فقدتها، لتلاشت في غياهب النسيان، وما عادت سويسرا الشرق كما عرفت بها في غابر الأزمان.

لذا، لا يمكن لبيروت بأي حال من الأحوال أن تنظر إلى العالم العربي بعيون فارسية، بل إن مصلحتها الفضلى تكمن في أن تكون عيونها خضراء يانعة، ولسانها عربيًا فصيحًا، وشعرها أشقر ذهبي، ولكن قلبها «أسمر» حنون، بسمرة محيطها المتنوع وجذورها العريقة.

لقد كانت بيروت بصبغتها المميزة وثقافتها الفرنكوفونية الفريدة، بمثابة الإطلالة الساحرة للعرب نحو العالم المتحضر، وقطعة من قارة أوروبا العريقة في هذا الشرق «القديم» بأصالته، بثقافتها الراقية وموسيقاها العذبة وعمرانها الشامخ ونمط حياتها المترف. وخلال العقود الأربعة الماضية، كادت بيروت أن تفقد هويتها المتفردة، لصالح وجوه غريبة عنها، أنبتت في أرضها أشجار الشوك «الفارسي» المؤذي، بدلًا من أشجار الأرز والصنوبر الشامخة.

الرياض اليوم، وهي تبني جسور السياسة المتينة، في أعقاب زلزال «الخريف العربي» المدمر، ترى أنها أم العرب الحاضنة، وبوابتهم الشرقية المشرعة، وملاذهم الآمن إذا عصفت بهم الرياح العاتية. وكعادة الرياض دائمًا، فهي تقدم الحكمة الرصينة، والحلم الجميل على الغضب الجامح، وإذا أشاحت بعينها يومًا ما، فهي عين المحب المشفق الذي يرفق بأحبابه في الملمات والشدائد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة